شهدت إسرائيل تفاعلاً غير مسبوق مع فوز زهران ممداني في انتخابات بلدية نيويورك، حيث بثّت القنوات الإسرائيلية خطابه مباشرة، في إشارة إلى القلق العميق من تولي ناقد صريح لسياسات إسرائيل منصباً على رأس المدينة التي تضم أكبر تجمع يهودي في العالم.
قلق رسمي إسرائيلي من “سقوط التفاحة الكبرى”
اعتبر أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، أن “التفاحة الكبرى سقطت”، ودعا اليهود في نيويورك إلى “العودة إلى أرض إسرائيل”. في المقابل، حاول داني دانون، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، تهدئة الخطاب بتأكيده أنه سيعمل مع قادة الجالية اليهودية في نيويورك “لحماية أمنهم ورفاههم”.
تصاعدت ردود الفعل السياسية في تل أبيب لتكشف عن حالة خوف تتجاوز السياسة المحلية، إذ وصف وزير الأمن القومي اليميني إيتمار بن غفير العمدة الجديد بأنه “داعـم لحماس ومعادٍ لإسرائيل”. وذهب وزير الشتات أميخاي شيكلي إلى حد القول إن “نيويورك تسير بأعين مفتوحة نحو الهاوية التي سقطت فيها لندن”، في إشارة إلى عمدة لندن المسلم صادق خان.
غضب في إسرائيل واحتفاء في فلسطين
بينما سادت إسرائيل موجة ذعر سياسي وإعلامي، احتفت الأوساط الفلسطينية بالنتيجة بوصفها تحولاً تاريخياً في المزاج الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية. رحّب مصطفى البرغوثي، زعيم المبادرة الوطنية الفلسطينية، بما وصفه بـ”ثورة شبابية تقود تحولاً تاريخياً”، بينما قالت حنان عشراوي إن “فوز ممداني رسالة للولايات المتحدة والعالم بأن الناس مستعدون للتغيير والعدالة الاجتماعية”.
في بيت لحم، وصف القس منذر إسحق النتيجة بأنها “مشجعة”، قائلاً إن “كثيراً من الليبراليين الأمريكيين يضحّون بموقفهم من فلسطين حين يترشحون للمناصب الكبرى، لكن ممداني أثبت أنه يمكن الفوز دون التخلي عن فلسطين”. أما النائب العربي في الكنيست أحمد الطيبي فكتب مهنئاً بالعربية: “مبروك لزعيم ألهم كل أطياف نيويورك وهزم العنصريين وكارهي الإسلام”.
تحدي القواعد السياسية الأمريكية التقليدية
كسر ممداني الأعراف السياسية الراسخة في الولايات المتحدة، إذ اعتاد السياسيون الأمريكيون، لعقود، اعتبار دعم إسرائيل شرطاً أساسياً للصعود السياسي. لكنه خاض حملته بانتقاد صريح لما وصفه بـ”إبادة جماعية في غزة”، وبتأكيده أن إسرائيل يجب أن تكون “دولة لكل مواطنيها بصرف النظر عن دياناتهم”.
واجه ممداني هجوماً إعلامياً قاسياً خلال حملته، خاصة بعد أن تهرّب من الإجابة حول ما إذا كان يؤيد نزع سلاح حركة حماس، مكتفياً بالقول إن “على حماس وإسرائيل معاً الالتزام بالقانون الدولي”. كذلك قال إنه سيسعى إلى تنفيذ أي مذكرات توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
جدل وانقسام داخل المجتمع اليهودي الأمريكي
داخل نيويورك نفسها، انقسمت الجالية اليهودية حول فوز ممداني. اعتبرته بعض القيادات خطوة نحو المصالحة، بينما رأى آخرون فيه تهديداً لهوية المدينة. قال جوناثان جرينبلات، رئيس رابطة مكافحة التشهير، إن “السجل المقلق للعمدة المنتخب في القضايا الحساسة بالنسبة للجالية اليهودية يدعو للحذر”، مطالباً بأن “يعارض معاداة السامية بشكل واضح ويضمن أمن كل اليهود كما يفعل مع باقي سكان المدينة”.
أما اتحاد المنظمات اليهودية الأميركية (UJA-Federation) فعبّر عن “عدم ارتياحه العميق”، قائلاً إن ممداني “يتبنى مبادئ تتعارض مع القيم الأساسية لجاليتنا”.
لكن أصواتاً يهودية تقدمية رأت في فوزه فرصة لتغيير الخطاب السائد حول فلسطين. قالت بيث ميلر، مديرة السياسة في منظمة “يهود من أجل السلام العادل”، إن “فوزه يثبت أن القاعدة الشعبية مستعدة للاستماع إلى مَن يتحدث عن حقوق الفلسطينيين بوضوح ودون خوف”. وأضافت أن الهجوم الذي شنّه خصمه أندرو كومو بوصفه “معادياً للسامية” لم يكن سوى “تخويف سياسي فاشل”.
خطاب المصالحة وتأكيد العدالة
في خطابه الانتخابي أمام حشد مؤيديه في بروكلين، قال ممداني، البالغ 34 عاماً، إن إدارته “ستبني قاعة مدينة تقف بثبات إلى جانب يهود نيويورك، وتواجه معاداة السامية دون تردد”. وأكد أن العدالة لا تتجزأ، وأن أمن الجالية اليهودية لا ينفصل عن أمن كل مكونات المدينة.
ويشير مراقبون إلى أن فوزه يعكس تحولاً أعمق في المزاج الأمريكي، خصوصاً داخل الحزب الديمقراطي، حيث تراجعت صورة إسرائيل إلى أدنى مستوى تاريخي بين الناخبين الشباب والتقدميين. كتب الصحفي الإسرائيلي أمير تيبون في هآرتس أن “ممداني منح اليسار الأمريكي دفعة قوية، وأثبت أن انتقاد إسرائيل لم يعد انتحاراً سياسياً”.
نحو مرحلة جديدة في علاقة أمريكا بإسرائيل
يحذر محللون في إسرائيل من أن تجاهل هذا التحول سيعمّق عزلة تل أبيب. كتب الباحث شموئيل روزنر أن “ممداني أثبت أن مواجهة إسرائيل بلا خوف قد تكون مربحة سياسياً، أو على الأقل غير مدمّرة”.
وبينما يكتفي بعض المسؤولين الإسرائيليين بالدعوة إلى “إعادة تسويق صورة إسرائيل في أمريكا”، كما قال السفير السابق جلعاد إردان، يرى آخرون أن فوز ممداني هو إنذار سياسي صريح: فجيل جديد من الأمريكيين بدأ يرفض التواطؤ مع سياسات الاحتلال، ويدعو إلى عدالة شاملة تتجاوز الانتماءات الدينية والقومية.
بهذا الانتصار، يفتح زهران ممداني صفحة جديدة في التاريخ السياسي الأمريكي، ويجبر المؤسسة الإسرائيلية والأمريكية معاً على مواجهة سؤال أخلاقي طال تأجيله: هل يمكن لديمقراطية حديثة أن تظل صامتة أمام الظلم، ثم تتحدث عن الحرية والعدالة؟
https://www.nytimes.com/2025/11/05/nyregion/mamdani-jewish-leaders.html
https://www.nytimes.com/2025/11/05/world/middleeast/zohran-mamdani-israel-reaction.html

